سلسلة السيرة النبوية_الدعوة جهراً
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فهذا هو الدرس السادس من دروس السيرة النبوية المطهرة المشرفة.
مراحل الدعوة الجهرية والبدء بدعوة الأقربين
ذكرنا في الدرس السابق ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من بداية الدعوة السرية في أرض مكة
- وكانت هذه الفترة قرابة ثلاث سنوات كاملة،
- وبلغ عدد المسلمين في آخر هذه الفترة نحو ستين فرداً من الرجال ومن النساء،
وأصبح من المتعذر على أهل مكة أن يستأصلوا الإسلام بكامله؛ لأنهم كانوا من قبائل مختلفة، ومعظمهم من الأشراف.
وهنا أذن الله عز وجل لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بالجهر بالدعوة:
- أذن الله عز وجل لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بالجهر بالدعوة، وكانت مرحلة الدعوة الجهرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مرحلة جديدة.
- في أوائل هذه المرحلة أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته، بينما ظل بقية المسلمين في سرية ولم يجهروا، وهذا تدرج واضح في إيصال الدعوة للناس.
أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، وأن يبدأ بأقاربه دون بقية الناس، وهذا أيضاً نوع من التدرج في إيصال الدعوة إلى الناس، قال الله له: { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } [الشعراء:٢١٤]،
ولماذا الأقربون بالذات؟
أولاً: لوجود حب فطري للداعية لأقاربه، وهم أقرب إلى الإجابة من غيرهم؛ والقريب ليست بينه وبين الداعية حواجز قبيلة أو عنصرية فهو يحبه حباً فطرياً.
ثانياً: لوجود الحمية القبلية عند العرب، فهذا يعطي للداعية قوة، وبالذات إذا كانت للداعية عائلة كبيرة، فلو آمنت هذه العائلة بدعوته لأصبحت عضداً له في دعوته.
ثالثاً: أن دعوة الأقارب هي المسئولية الأولى الملقاة على عاتق الداعية: ( كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته ).
ومن هنا جاءت أهمية صلة الرحم - وأهمية محبت الأقربين،
والإحسان إلهم وإيصال ما أمكن من الخير إليهم ودفع ما أمكن من الشرِّ عنهم فتشمل زيارتهم والسؤال عنهم والإهداء إليهم والتصدُّق على فقيرهم وعيادة مرضاهم وأتباع جنازتهم وإجابة دعوتهم واستضافتهم ومشاركتهم في أفراحهم وأتراحهم وغير ذلك ممَّا من شأنه أن يزيد ويُقَوِّيَ من أواصر العَلاقات بين أفراد هذا المجتمع الصغير - فلو أن الداعية يحارب من داخل بيته أو عشيرته أو قبيلته، أو أن أباه أو زوجته أو ابنه يعوق مسيرته، فإن هذه أمور تعيق طريق الدعوة وتجهضها.
وهناك نقطة بنائية هامة لابد أن نخرج منها:
وهي أن دعوة الأقربين أهم من دعوة عامة الناس؛ فهذا لوط عليه السلام عندما جاءه قومه يراودونه عن ضيفه، قال لهم: { لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:٨٠]؛ لأن لوطاً عليه السلام لم تكن له عائلة قوية، فكان يتمنى لو أن له عائلة قوية لوقف أمام القوم يدافع عن ضيوفه.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم تعليقاً على هذا الكلام:
( رحمة الله على لوط، لقد كان يأوي إلى ركن شديد - وهو الله عز وجل - فما بعث الله بعده من نبي إلا في ذروة من قومه ).
ليس عيباً أن الإنسان يحتمي بقومه وبعشيرته وبقبيلته مادام لا يتنازل عن شيء من عقيدته ودينه، على النقيض من هذا الموقف كان موقف شعيب عليه السلام، وانظر إلى قومه عندما جاءوا إليه ليعترضوا عليه قالوا: ولولا العائلة الضخمة الكبيرة التي تأوي إليها: { وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } [هود:٩١].
إذاً: دعوة الأقربين هامة جداً في بناء الأمم.
- ان الرسول صلى الله عليه وسلم عندما نزلت عليه هذه الآية: { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } [الشعراء:٢١٤] تحرك بسرعة صلى الله عليه وسلم، ودعا (45) من أهله إلى الطعام، والدعوة إلى الطعام ترقق القلوب؛ لأن فيها ألفة ومودة، فمن أجل أن يكلمهم في أمر الدعوة دعاهم أولاً إلى الطعام، ثم بعد ذلك يبلغهم أمر الدعوة.
- لكن قبل أن يتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم وقف أبو لهب وقال: هؤلاء هم عمومتك وبنو عمك فتكلم ودع الصُّباة، واعلم أنه ليس لقومك طاقة بالعرب قاطبة.
كان أبو لهب يسمع بأمر الدعوة وأمر الإسلام، ولكنه لم يعترض على الإسلام من قبل، ولم يعترض أحد من أهل قريش قبل ذلك، ومع اكتشافهم لبعض المسلمين؛ لأن المسلمين كانوا يكتفون بعبادات فردية، ويعبدون الله عز وجل في بيوتهم، فظن أهل قريش أنهم يفعلون أفعال الذين تنصروا أو اتخذوا الحنيفية ديناً، وأهل الباطل لا يمانعون أن تعبد ما تشاء في بيتك دون تدخل في المجتمع - أما أن يجمع محمد صلى الله عليه وسلم الناس، ويبدأ في دعوتهم إلى ما هو عليه، ثم يسفه ما يعبدون من دون الله، ثم يحكمون الله في أمورهم! فهذا ما يرفضه أهل الباطل من قريش.
كانت هذه مبادرة أبي لهب، ثم أتبعها بكلام شديد،
قال: ما رأيت أحداً جاء على بني أبيه بشر مما جئت به، فسكت الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يدع الناس، ولم يدخل في جدل مع أبي لهب، وهي حكمة نبوية بالغة؛ لأن الظرف غير موات، فليس من الحكمة إلقاء الدعوة في هذا الجو- وأبو لهب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم - وله أتباع وأنصار، فليجمع الرسول صلى الله عليه وسلم
موقف الأقربين من الدعوة النبوية
الموقف الأول: موقف ابي طالب
هو موقف أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي أحبه حباً يفوق حب أولاده، والذي كفله بعد وفاة جده عبد المطلب، وموقفه يعتبر من أكبر علامات الاستفهام في التاريخ.
وقف أبو طالب إلى جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم يشجعه بكل طاقاته، لكنه ما دخل في دينه، أخذ أبو طالب كل تبعات الدين الشاقة، وما استمتع بأحلى ما في هذا الدين؛ من تضحية، وبذل، وجهاد، وعطاء، وتعب، وسهر؛ لأنه لم يؤمن، { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [القصص:٥٦].
قام أبو طالب فقال: ما أحب إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشد تصديقنا لحديثك، وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم، غير أني أسرعهم إلى ما تحب - أي: أسرعهم إلى نصرتك ومعاونتك - فامض لما أمرت به.
أي: أنه يعلم أن الله عز وجل هو الذي أمره بذلك، ولم يأت به من عنده صلى الله عليه وسلم، ثم يقول أبو طالب: فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب.
هذا يعني أنه تيقن أنه رسول من عند الله سبحانه وتعالى، وأنه أمر بهذا الكلام ولم يأت به من عنده، وأنه صادق لا يكذب،
ومع ذلك يقول: نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب.
ما الذي وقف حاجزاً بينه وبين الإيمان؟
انها التقاليد و تقديس رأي الآباء والأجداد ، حتى وإن كان مخالفاً للحق .
المهم في هذا أن أبا طالب كان واضحاً في دفاعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول يوم جهر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة لأقاربه.
الموقف الثاني: موقف ابي لهب :
وعلى الجانب الآخر قام أبو لهب وظل مصراً على عدائه، قال: هذه والله السوأة، خذوا على يده قبل أن يأخذ غيركم، فقال أبو طالب: والله لنمنعه ما بقينا.
إذاً: يتضح أمامنا أن هناك موقفين لأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛
- موقف مدافع يتزعمه أبو طالب،
- وموقف مهاجم يتزعمه أبو لهب.
الجهر بالدعوة أمام قريش عامة.
جاءت الأوامر من الله عز وجل أن يوسع الرسول صلى الله عليه وسلم دائرة الدعوة، فيقوم بصيحة أعلى بعد ذلك لكل بطون قريش، فوقف صلى الله عليه وسلم على جبل الصفا ينادي:
يا بني فهر، يا بني عدي، يا بني هاشم، يا بني مخزوم، حتى أتى على كل بطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر الأمر؛ لأنه يرى أن الأمر عظيم.
يقول ابن عباس في رواية البخاري: جاء أبو لهب وقريش - يخص بالذكر أبو لهب؛ لأن له موقفاً من هذا الحدث - فقال صلى الله عليه وسلم:
(أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال صلى الله عليه وسلم: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد).
فهنا يقيم الرسول صلى الله عليه وسلم الحجة على قومه، أولاً: سألهم:
( أكنتم مصدقي؟ فقالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً ) .
بمعنى: أنهم يعتقدون تمام الاعتقاد أن هذا الرجل لا يكذب ، فأنذرهم بالإنذار الذي جاء به:
(فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)،
أي: إذا كنتم تصدقون إنذاري لكم بخيل وأعداء، فيجب أن تصدقوا إنذاري لكم بعذاب شديد، إذا بقيتم على ما أنتم عليه من عبادة الأوثان وتحكيمها في حياتكم.
فلم يسكت أبو لهب بل قال: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟
فنزلت السورة الكريمة: { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [المسد:١].
وهنا مشكلة واضحة بداخل أبي لهب منعته من الإيمان،
- إن كانت مشكلة أبي طالب التقاليد،
- فإن مشكلة أبي لهب كانت الجبن الشديد
قال: ( ليس لنا بالعرب من طاقة ) ليس لنا قدرة على تغيير المألوف، ليس عند أبي لهب مانع من الوقوف بجوار القوي وإن كان مخالفاً للحق، وليس عنده مانع من أن يخذل ابن أخيه، أو يخذل الحق بصفة عامة وإن كان من أقاربه وعشيرته، هذا هو الذي أرداه فجعله من الخاسرين، الجبن الشديد المقعد عن العمل الصالح.
الجهر بالدعوة لعامة الناس من قريش وغيرهم
حصل إعلان لقريش، وحصل إعلان لأقارب الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة قبل ذلك، ثم جاء بعد ذلك إعلان أوسع، الإعلان العام لأهل مكة ولغيرها، ويتضح من هذا التدرج في الدعوة التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الله عز وجل: { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } [الحجر:٩٤]
أي: فاصدع يا محمد بأمر الدعوة.
هناك أمران متلازمان سيبقيان معنا طوال مرحلة جهرية الدعوة:
- الأمر الأول: هو إعلان الدعوة للناس كافة مع خطورة هذا الأمر.
- الأمر الثاني: الإعراض عن المشركين، بمعنى: عدم قتال المشركين، وهذا يتضمن معنى ضمنياً، وهو أنه سيحاول المشركون قدر استطاعتهم أن يوقفوا مد هذه الدعوة، وهذا هو ما أشار إليه ورقة بن نوفل من قبل لرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة أن يتجنب الصدام مع المشركين: { وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } [الحجر:٩٤]، حتى لو حدث كيد وتعذيب وقتل فأعرض عن المشركين، هذه ظروف مرحلة معينة تمر بها الدعوة في هذه الفترة من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم صدع بما أُمر به.
أثر الدعوة في مكة:
💨- فماذا حدث؟
حدث انفجار في مكة - مشاعر الغضب والاستنكار والرفض - اجتماعات وتخطيطات ومكائد ومؤامرات - قامت الدنيا ولم تقعد في مكة - إنها الحرب لا هوادة فيها.
المسلمون في مكة لم يعلنوا إسلامهم باستثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من البشر يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة إلا أبو طالب.
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بدفاع أبي طالب مع كونه كافراً، فهو رجل واقعي يقدر خطورة الموقف، لم يقل: هذا كافر ولا يجوز أن أحتمي به، ولكنه في ذات الوقت ما فرط في كلمة واحدة من الدين، ما تنازل ما بدل ما غير صلى الله عليه وسلم، إنما كانت مساعدة غير مشروطة من أبي طالب، مساعدة دون أن يفرض رأياً أو يخطط مستقبلاً لرسول صلى الله عليه وسلم أو للمسلمين والإسلام.
إذاً: هذا هو موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وموقف أبي طالب وموقف مكة بصفة عامة.
💨- موانع دخول أهل مكة في الإسلام
قبل الحديث عن خطة مكة في القضاء على الدعوة الإسلامية لابد أن نبحث في موانع الإسلام عند أهل مكة:
- لماذا لم يؤمن أهل مكة؟
- هل لأنهم لم يقتنعوا بالدعوة؟
- لماذا حاربوا الدعوة ولم ينصروها مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم منهم ومن داخلهم؟
- ألأنهم لم يدركوا الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
لقد كانت الرسالة واضحة جداً، كما قال الله عز وجل في كتابه الكريم: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا
} [النمل:١٤] .
بين يدي هؤلاء القرآن وهو كلام معجز - وهؤلاء هم أهل اللغة، ويعرفون أن هذا الكلام ليس من كلام البشر - ويعلمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله فعلاً وأنه صادق ولا يكذب.
ومع ذلك كان أبي بن خلف يقابل الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول له: إني سأقتلك، فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم: بل أنا أقتلك إن شاء الله.
وصدق رسوول الله :
مرت الأيام وخرج أبي بن خلف متردداً إلى أحد يحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضربه صلى الله عليه وسلم بسهم أصاب منه خدشاً في كتفه، فكان أبي بن خلف يصرخ من هذا الخدش صراخاً شديداً، فقال له الناس: هون عليك هذا أمر سهل، فقال أبي بن خلف: إنه قال لي بمكة: أنا أقتلك، فوالله لو بصق علي لقتلني!
فانظروا إلى مدى تصديق أعتى المشركين لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذاً: أهل مكة كانوا يوقنون أن هذا الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق لا ريب فيه.
فلماذا كذبوه؟
💨- ذكرنا من الأسبابالتقاليد الذي كان عند أبي طالب والجبن الذي كان عند أبي لهب.
💨- من الأسباب أيضاً القبلية:
ففي مكة قبائل كثيرة، بل في داخل قريش بطون كثيرة،
فـ أبو جهل من بني مخزوم، وكان يقول: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟!
والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه.
فالتعصب لقبلية أو لقومية أو لعرق معين من شيم الجاهلية، وأعداء الأمة يستغلون هذا المدخل منذ القديم وإلى يوم القيامة،
↞ وهي النقطة التي دخل منها شاس بن قيس اليهودي لعنه الله للتفرقة بين الأنصار إلى أوس وخزرج.
↞ وهذه هي النقطة التي دخل منها اليهود والإنجليز لإسقاط الدولة العثمانية، عندما فرقوا المسلمين إلى عرب وأتراك.
↞ وهي النقطة التي دخل منها الفرنسيون لإسقاط الجزائر عندما فرقوا المسلمين إلى عرب وبربر.
💨- من الأسباب أيضاً الكبرياء:
ما أكثر الذين امتنعوا عن لزوم الحق بسبب الكبرياء، قال الله: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } [البقرة:٣٤]،
فالكبر يقود إلى الكفر.
وقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبر بقوله:
( الكبر بطر الحق وغمط الناس )، (بطر الحق) أي: تعرف الحق ثم تنكره. (وغمط الناس): أي: احتقارهم.
وانظر إلى كلام الوليد بن المغيرة الذي حكاه القرآن الكريم،
قال الله عز وجل في كتابه: { وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف:٣١]
لقريتان هما: مكة، والطائف.
- فالمقصود بالعظيم في مكة هو الوليد بن المغيرة،
- والعظيم في الطائف هو عروة بن مسعود الثقفي،
انهم يقولون: لو كان نزل القرآن على رجل عظيم لكنا آمنا به،
يقيسون العظمة بكثرة الأموال لا بقيم الأخلاق والدين والعقيدة
مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق،
ويوضح الله عز وجل في كتابه الكريم أن الذي يتصف بصفة الكبر من المستحيل أن يتبع الحق،
قال الله عز وجل: { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ } [الأعراف:١٤٦]
أي: أن الله عز وجل بنفسه هو الذي سيصرف أولئك الذين يتكبرون عن آياته سبحانه وتعالى.
💨- من الأسباب أيضاً الخوف:
ومن الناس من منعه الخوف على السيادة والحكم في أرض مكة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يريد تحكيم الله عز وجل في أمور العبادة، وهو صلى الله عليه وسلم ناقل عن رب العزة، وسيسحب البساط من تحت أقدام الزعماء كـ أبي سفيان وغيره؛ وذلك إن انتشر دين الإسلام بمكة، فكان الخوف على الحكم والقيادة.
المراحل السلمية لصد الدعوة الإسلامية
بدأ الكفار في الكيد، وسلكوا السبيل الذي سلكه من قبلهم في صدر التاريخ، والذي سلكه أمثالهم إلى يومنا هذا، والذي سيظل كذلك إلى يوم القيامة، سنة الله عز وجل: { وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلً } [الأحزاب:٦٢]
بدءوا يأخذون خطوات متدرجة لإيقاف المد الإسلامي،
وهي ونفس الخطوات تتكرر في كل زمان،
يقول الله عز وجل: { أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } [الذاريات:٥٣].
نفس الأساليب ونفس الطرق - قد تختلف اختلافات طفيفة لاختلاف الزمان أو المكان، لكن الأفكار واحدة، وطرق الصد واحدة.
💨 - تحييد أنصار الرسول صلى الله عليه وسلم وتخويفهم
- المرحلة الأولى من مراحل صد الدعوة الإسلامية:
تحييد أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة، لا يوجد إلا شخص واحد يعلن نصرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أبو طالب، فذهبوا إلى أبي طالب، وقالوا له:
إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا فانهه عنا، فعندما استمع أبو طالب إلى هذه الكلمات تأثر وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته عن أذاهم، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره إلى السماء وقال لهم:
ترون الشمس؟ قالوا: نعم، قال: فما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم
على أن تشعلوا منها بشعلة.
بعد أن رأى أبو طالب ثبات رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال
: والله ما كذب ابن أخي قط؛ فارجعوا راشدين، فأمر القوم أن يعودوا ويتركوا محمداً صلى الله عليه وسلم.
صلابة الداعية وثقته في الله عز وجل وفي دينه، وتعظيمه لأمر الأمانة التي يحملها يلقي بآثاره على من حوله، وتنتقل هذه الصلابة انتقالاً طبيعياً منه إلى أتباعه وأحبابه ومقربيه، بل انتقلت إلى أبي طالب وهو كافر.
ان إصرار رسول الله صلى الله عليه وسلم جعله يرد أهل الكفر بغيضهم لم ينالوا إجابة - إن العدو عندما يرى الداعية صلباً مستمسكاً بمبادئه وإسلامه يتزلزل كيانه ويتضاءل، مهما كان مدججا بالسلاح وصاحب قوة وسلطان وتنكيل.
إذاً: فشلت المحاولة السلمية الأولى في تحييد أو تخويف أبي طالب واستمر الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته.
المرحلة السلمية الثانية: تشويه صورة الداعية أمام الناس، وكانت حرباً إعلامية كبيرة بقيادة الوليد بن المغيرة وأبي لهب وغيرهما - تحالفت قبائل مختلفة لحرب الإسلام.
فهذا أبو لهب من بني هاشم - والوليد بن المغيرة من بني مخزوم، فرغم العداوة بين القبيلتين إلا أنهما الآن متفقين معا في خطة لشن حرب إعلامية على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد أقيم مؤتمر ضم معظم الفصائل المكية في ذلك الوقت، وكان من الواضح أن الوليد بن المغيرة هو الذي يتزعم هذا المؤتمر.
قال الوليد: يا معشر قريش! إنه قد حضر الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا - يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم - فأجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قولكم قول بعض.
ويتضح أن الوليد بن المغيرة يحارب الإسلام بذكاء، فهو يريد أن يجمع أقوال الناس في قول واحد؛ حتى يكون مقنعاً للناس في إعراضهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس قل وأقم لنا رأياً نقول به، فقال: بل أنتم قولوا أسمع - يعني: يريد أن يخرج كل ما في أنفسهم، فبدءوا يفكرون في كذبة مناسبة، ولنعلم أنهم يعلمون أن ما يقولونه هذا ليس صواباً، ولكنهم يفترون على الله عز وجل الكذب، فقالوا:
هو كاهن، والوليد بن المغيرة ذكي، قال: ما هو بكاهن، لقد رأيت الكهان فما هو بزمزمة الكاهن وسجعه.
يعني: لن يقتنع الناس إذا قلتم بأنه كاهن فقالوا:
هو مجنون، فقال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو تخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته، يكفي من هذه الألفاظ أنه ليس بالجنون،
فقالوا: هو شاعر، فقال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر برجزه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشاعر.
قالوا: هو ساحر، قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثه ولا عقده.
قالوا: فما تقول يا أبا عبد شمس؟ فقال الوليد بن المغيرة: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق -العذق هي النخلة - وإن فرعه لجناه - ما يجنى من الثمر- وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول - يعني: هو يعلم أن هذا القول ليس بصحيح، ولكن أكبر كذبة من الممكن أن تنطلي على الناس هي هذه الكذبة - أن تقولوا: جاء بقول هو سحر، وهو ساحر غير تقليدي، ليس كالناس المعروفين بالسحر عن طريق النفث والعقد، ولكنه يسحر بسحر يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته.
يعلم أنه يكذب، ومع ذلك شجع الناس لتكذب؛ لكي تحارب الدعوة.
فنزل قول الله عز وجل: { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا } [المدثر:١١ - ١٧]،
صور لنا الله الذي لا يخفى غليه شيئ الحالة النفسية التي كان فيها الوليد بن المغيرة وهو يفكر كيف يحارب الدعوة:
{ سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } [المدثر:١٧ - ٢٢].
صراع نفسي داخلي عنيف بين علمه بالحق وبين إنكاره له، وهي الحالة النفسية ٍالمضطربة للكافر، فمن سنن الله عز وجل أن يقف الكافرون ضد الحق وهم يعلمون أن هذا حق، فهم يقفون ويحاربون الدعوة بكامل طاقتهم، كما فعل الوليد بن المغيرة وكما فعل أبو لهب وغيرهما.
ثم ماذا كانت النتيجة بعد كل هذا التفكير الشديد الطويل؟
{ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } [المدثر:٢٣ - ٢٥].
فما هو العقاب؟ {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:٢٦].
ثم مع كل هذا الإعداد ومع كل هذا المؤتمر الضخم، إلا أنهم ليسوا بموفقين؛ لأن الله عز وجل بنفسه يحاربهم.
الإمكانيات الإعلانية لرسول صلى الله عليه وسلم كانت أقل بكثير من إمكانيات الكافرين، ومع ذلك كان يصل إلى الناس؛ لأنه يقول الحق.
المرحلة السلمية الثالثة: تشويه صورة الدعوة الإسلامية
المرحلة السلمية الثالثة هي تشويه الدعوة ذاتها، وتشويه الإسلام, فحتى لو لم يكن للناس اعتراض على شخص الداعية، فهناك اعتراض على كلام الداعية - يعني: الإعلان في مكة كان يضرب تارة في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم أو في شخص الداعية، وتارة يضرب في الإسلام.
💨- فقالوا في الأسلام
- قالوا أن هذا الدين يدعو إلى أشياء خرافية ليست حقيقة:
{ إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ }
[الفرقان:٤]،
أي: هذا كذب ألفه بمساعدة آخرين،
- { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } [الفرقان:٥]،
أي: كتب الأولين استنسخها.
مع أنهم يعلمون أنه أمي لا يقرأ - ويعلمون حياته من أولها إلى آخرها - وما غادر مكة إلا قليلاً - ولم يكن يغادرها بمفرده - فكيف عرف كل هذا القرآن؟
- ولقد ادعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعلم القرآن على يد غلام نصراني، وهم كاذبون.
{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } [النحل:١٠٣].
- انهم كما قال الله عز وجل:
{ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ } [النمل:١٤].
💨- وطعنوا في رسالة التوحيد:
وهذا يعتبر طعناً في أصل الرسالة،
قالوا: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ص:٥]، وهذا الصوت العالي للباطل قد يشتت أفكار العوام.
💨- وطعنوا في فكرة البعث:
ثم عملوا على تشويه فكرة البعث:
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } [سبأ:٧ - ٨]،
أهل مكة يدعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب، وقد كانوا يسمونه: الصادق الأمين،
{ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ } [سبأ:٨].
💨- وعملوا على تشويه أخلاقيات هذا الدين:
فقالوا: هذا دين يفرق بين المرء وزوجه، وبين المرء وأهله.
مع أنه لم يأت دين يجمع الناس ويوحد صفوفهم مثل دين الإسلام، الا أن الإسلام يريد أن يوحد الناس على أساس متين يستوي فيه أهل الأرض جميعاً، وهو أساس العقيدة، وهذا ما تأباه قريش.
وهكذا فعل ويفعل أهل الباطل:
يتهمون الإسلام في ذاته - كما يشوهون صورة الداعية - ويشوهون صورة الدين.
- ونحن نرى الآن كيف يتهم الإسلام بأنه دين الإرهاب، مع أنه لم يأت دين يدعو إلى الرحمة كدين الإسلام،
- ويتهمونه بالجمود الفكري، مع أنه لم يأت دين يدعو إلى التفكر كدين الإسلام،
- ويتهمونه بالتخلف العقلي، مع أنه لم يأت دين يدعو إلى انفتاح العقل على العلوم والتعلم والتفقه وعمارة الأرض كدين الإسلام.
المرحلة السلمية الرابعة: شغل الناس بالباطل:
يقع الذين يصدون الناس عن الدعوات الإصلاحية في المشكلة الضخمة، وهي أن الدعاة إلى الله عز وجل عادة ما يكونون على صورة طيبة، من صدق، وأمانة وأدب في المعاملة، ومروءة في الأخلاق، وتفوق في العلم، وحسن في المنطق - فيصعب الطعن في الداعية، وقد يصعب الطعن في الرسالة؛ لأن الرسالة تتوافق مع فطرة الناس جميعاً.
إذاً: الإلهاء عن الحق كان وسيلة من وسائل الكفر في حرب الإسلام،
- القلب المنشغل بالباطل لا يلتفت إلى دعوة إصلاحية أو إلى دعوة الحق،
- والإنسان الغارق في حياة اللهو والتفاهة والانحلال لا يهتم بأي دعوة جادة.
من الخطط القديمة لأهل الباطل أن يقدموا للناس ما يسمونه فنوناً مختلفة من الملهيات، تملأ أوقاتهم وعقولهم وقلوبهم فتشغلهم عن الدين.وهو ما يسمى بالإعلام المضاد لدين الإسلام، وهو حرب غير مباشرة على الدين.
هذه الخطة الشيطانية عمد اليها رجل من كفار قريش - هو النضر بن الحارث لعنه الله، وقف يحادث قريشاً عن خطته،
فقال: يا معشر قريش! والله لقد نزل بكم أمر ما أوتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثاً وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به
قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر،
وقلتم: كاهن، لا والله ما هو بكاهن.
وقلتم: شاعر، لا والله ما هو بشاعر،
وقلتم: مجنون، لا والله ما هو بمجنون،
يا معشر قريش! فانظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم.
ثم ماذا فعل النضر بن الحارثٍ؟
ذهب النضر بن الحارث إلى الحيرة في العراق يتعلم منها فناً جديداً؛ لكي يلهي الناس به؛ يبذل النضر بن الحارث المال والوقت والجهد والفكر للصد عن سبيل الله، ينفق أموالاً ضخمة وميزانيات هائلة لنشر الإباحية والمجون:
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ } [الأنفال:٣٦].
أخذ النضر بن الحارث يتعلم أحاديث ملوك الفرس وأحاديث رستم واسفنديار، أخذ يتعلم أساطير وحكايات وروايات وقصصاً فيها تشويق وإثارة، وفيها جذب للانتباه، وتنشيط للشهوات، وإباحية أحياناً، وغموض أحياناً أخرى، وصراع في أحيان ثالثة، ورومانسية في أحيان رابعة، وهزل وضحك وكوميديا في أحيان خامسة، وهكذا سيجد ما يوافق كل ذوق.
ثم عاد النضر بن الحارث بهذا التنوير وبهذا التطور وبهذا الرقي -في زعمه - يرفع الناس في مكة إلى مستوى حضارات الفرس كما يزعم، ثم بدأ في حربه ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً جاداً محترماً يذكر بالله، ويرغب في جنته، ويرهب من ناره، جلس النضر بن الحارث بالقرب منه يحدث بحديثه الهزلي، ويمتع الناس برواياته، ويقول: والله ما محمد بأحسن حديثاً مني.
ولم يكتف بذلك النضر، بل اشترى مطربات راقصات، فبدلاً من أن تتخيل الراقصات والمجون في رواياته، فلتشاهده عياناً بياناً بنفسك؛ إمعاناً في الإلهاء والتضليل،
كلما سمع أن رجلاً مال قلبه إلى الإسلام سلط عليه المطربات والراقصات يلهينه عن سماع كلام الإيمان،
وكلما نشط رسول الله صلى الله عليه وسلم نشط النضر بن الحارث؛ لأن هناك مواسم يكون فيها نشاط للدعوة، مثل موسم الحج، في هذه المواسم الدينية ينشط النضر بن الحارث في ملهياته، فنزل فيه وفي أمثاله قول الله عز وجل:
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [لقمان:٦ - ٧].
وهكذا يتواطأ أهل الباطل بهذا المنهج؛ شغل الناس بلهو الحديث، وبالذات في فترات زيادة الإيمان، ولعلنا بذلك نفهم أحداثاً خفيت على بعضنا؛
نفهم مثلاً النشاط الإعلامي الرهيب في شهر رمضان - تكدس ضخم للأعمال الفنية الملهية عن أي شيء جاد في الحياة؛ ملهية عن الدين وغير الدين - برامج حافلة بالفساد - وقنوات تلفزيونية لا حصر لها - وتنوع غير مسبوق فيما يقدم من أفلام - وتمثيليات، ومسرحيات، وأغان، وعروض كلامية، ورياضة، وحكايات، وبرامج ضاحكة، كل هذا في شهررمضان.
Commentaires
Enregistrer un commentaire