سلسلة السيرة النبوية_
بدء الوحي
دراسة السيرة النبوية لاستخراج مواقف تعيد بناء الأمة
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس الرابع من دروس السيرة النبوية : الفترة المكية.
الهدف من دراسة السيرة النبوية هو استخراج المواقف والعوامل التي بها يعود بناء الأمة على أساس متين.
لقد كانت سيرته صلى الله عليه وسلم وحياً، وكل خطوة من خطواته كانت مؤيدة بالوحي.
وليس هذا فحسب بل وقبل البعثة صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم على عين الله تعالى ورعايته، فقد حفظه الله عز وجل من عبادة الأصنام، ومن الأخلاق السيئة التي كانت سائدة في الجاهلية، فما علينا إلا أن نقفو كل موقف وكل خطوة من خطواته لنستلهم منها ما يكون به إعادة بناء الأمة بناء صحيحاً.
نحن اذا أمام مشروع ضخم هو كيف نبني أمة؟ أنت عندما تريد أن تبني مبنىً كبيراً تعمل ما يسمى بدراسة الجدوى، وطبيعة المكان، ومن سيشتغل معك؟
وما هي التكاليف التي ستدفعها؟
وما هي المعوقات التي تقف أمامك؟
لابد في دراسة السيرة لهذا الموضوع أن نبحث في كل نقطة من زوايا السيرة:
- لماذا فعل ذلك؟
- ومتى فعل؟
- وما هي الظروف الموجودة حول الرسول صلى الله عليه وسلم التي اختار هذا الرأي لأجلها؟
- وما هي الحكمة من وراء اختيار هذا الرأي.
هذا الذي يجعلنا نبني الأمة كما بناها الرسول صلى الله عليه وسلم.
يعرف الناس السيرة من أولها إلى آخرها، يعرفون, تفاصيل كثيرة جداً عنها، لكن نحن نبحث عن ما وراء هذه التفاصيل، يعني:
لماذا بدأ بفلان وفلان وفلان ولم يبدأ بغيرهم؟
لماذا دعا أبا بكر أولاً؟
لماذا تحدث إلى السيدة خديجة وزيد بن حارثة وعلي بن أبي طالب مع وجود أناس كثير؟
لماذا بدأ أبو بكر بدعوة هذا وهذا وترك الآخرين؟
لماذا جهر الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة بعد مضي ثلاث سنين من نزول الوحي عليه؟
وماذا حصل بعد الجهر بالدعوة في مكة؟
هل حاربت الناس الدعوة لأنها ليست مقنعة أم أن الدعوة مقنعة، وإنما وقفوا أمامها لأسباب أخرى منعت الناس من دخول الدعوة؟
وهل هذه الأسباب تتكرر أم لا؟
ثم كيف وقف الرسول عليه الصلاة والسلام أمام هذه الأسباب؟
كيف عالجها؟
كيف آمنت مكة؟
لماذا اختار الرسول صلى الله عليه وسلم لهجرة أصحابه الحبشة، ولم يأمرهم بالذهاب إلى اليمن أو الشام أو مصر أو العراق؟
ولما فكر بعد ذلك في الذهاب إلى المدينة المنورة بعث مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه يعلم الناس، لماذا اختار مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه من بين الصحابة؟
لماذا لم يبعث أبا بكر أو عمر أو عثمان أو علياً أو غيرهم من الناس؟
لما خرج من مكة وذهب إلى الطائف لماذا لم يذهب إلى أي بلاد أخرى؟
كل هذه الأسئلة لنخرج بقواعد في غاية الأهمية، هذا هو المقصود من كل موقف من مواقفه صلى الله عليه وسلم.
قصة نزول الوحي وأهميته
سنبتدئ القصة من الآن، لكنها بداية غير تقليدية، سنبتدئ من نقطة نزول الوحي، وليس هذا تقليلاً من أهمية الأربعين سنة من حياته صلى الله عليه وسلم التي سبقت الوحي،لأننا نريد استخراج نقاطاً هامة تفيد في بناء الأمة الإسلامية.
الإسلام كدين وكشرع وطريقة بدأ على الأرض منذ لحظة نزول الوحي.
سنبدأ بالحديث من هذه النقطة، وهذا لن يمنعنا من الرجوع لتحليل بعض النقاط في حياة رسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة إذا كان لها علاقة في التمهيد للبعثة.
كانت لحظة نزول الوحي على رسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء لحظة عظيمة في تاريخ البشرية، بل إنها أعظم لحظة مرت في تاريخ الأرض ككل إلى يوم القيامة.
ان الله سبحانه وتعالى وجل جلاله بعظمته وجبروته وقدرته وقوته أرسل رسولاً منه إلى الإنسان, هذا الانسان البسيط الضعيف الذي يعيش على ظهر كرة معلقة في الفضاء، لا تكاد ترى في الكون الفسيح.
ما رأيك لو أنك تلقيت رسالة من زعيم دولة عظمى يقول لك فيها: أنا مهتم بك، وعندي لك خير كثير.
إن الله جل وعلا لا يحتاج إلى هذا الانسان الائه في الفضاء الفسيح ولا لغره، لا تنفعه طاعته ولا تضره معصية، ومع ذلك من رحمته أرسل إليه رسالة هداية وبشرى وإنذار، وهذه الرسالة نزل بها أشرف الملائكة جبريل عليه السلام، على أشرف انسان بل أشرف الخلق الخلق - محمد صلى الله عليه وسلم، و الرسالة تتظمن أشرف الكلام - القرآن الكريم - كلام الله.
هذا الحدث فيه أعظم صور التكريم للإنسان، كما قال ربنا:{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } [الإسراء:٧٠] -
نزل الكلام الذي سيظل دستوراً في الأرض إلى يوم القيامة.
أيها الانسان - أنت : هل تقدر قيمتك كإنسان، والله يقول لك:
{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } [الإسراء:٧٠]، وأرسل لك رسولاً من السماء إلى الأرض، وأتى معه برسالة لك وبدستور كامل يوضح لك كل نقطة في حياتك.
التفكر في لحظة الوحي يغير كثيراً من مفهوم الإنسان عن نفسه، وإخوانه من البشر، والأرض التي يعيش عليها.
الوحي هداية ونور ودليل و ليس مجرد تكاليف وقيود.
الوحي نعمة ورحمة من ربنا سبحانه وتعالى:
المطلع على كل شيء،
المحيط بكل شيئ
العالم بكل شيء،
القادر على كل شيئ
ومن مصلحتك الاستعانه بهدايته:
- فاتباعك للوحي فيه سعادة الدنيا والآخرة،
- ومخالفتك للوحي فيه شقاء الدنيا والآخرة.
تخيل أن تائهاً في الصحراء لا يدري أين الطريق، وهو على مشارف الموت، وفجأة ويجد دليلاً ليس فقط يأخذه لمكان فيه أكل أو شرب، لا، بل لأحسن مكان في الكون ولا يطلب منه أي شيء - فهذا هو الوحي, انه الدليل في وسط التيه الكبير الذي تعيشه البشرية يأتي ليأخذ بأيدي الناس إلى السعادة في الدنيا، والسعادة في الآخرة في الجنة.
يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي } [طه:١٢٣ - ١٢٤]
أي: من يعيش في التيه الذي اختاره بنفسه، { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } [طه:١٢٤ - ١٢٦] أي: أتاك الوحي فنسيته، وسمعت به ولم ترض أن تتبعه، { قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } [طه:١٢٦]،
تداعيات ضخمة تحدث للإنسان بحسب فقهه لقيمة الوحي، الذي يتبع الوحي لا يضل ولا يشقى في الدنيا والآخرة, والذي لا يتبع الوحي يضل و يشقى في الدنيا والآخرة.
مقدمات نزول الوحي
جاء في صحيح البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها، تقول:
( أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ).
كانت هناك مقدمات للوحي قبل أن ينزل جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء،
من هذه المقدمات:
- الرؤيا الصالحة، فقد كانت تأتي مثل فلق الصبح، يعني: كان يرى الرؤيا فتقع تماماً كما رآها صلى الله عليه وسلم، فكان هذا نوعاً من إنباء بالغيب، وهذا أمر غريب، فهو وإن لم يكن تصريحاً بالرسالة، لكنه شيء لافت للنظر، وتمهيد لأمر عظيم.
ووجدت أشياء أخرى، فقد سبقت هذا بعض الأحداث العجيبة جداً في مكة، أحياناً كان يراها صلى الله عليه وسلم وحده، وأحياناً أخرى يراها معه غيره، و منها:
- سلام الحجر عليه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: ( إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن )، وهذا قبل البعثة وقبل نزول الوحي، ومؤكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف تفسير هذا الأمر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم تفاجأ بأمر الوحي، ولم يكن يعرف أنه سيكون رسول الله إلى الناس.
- وأغرب من سلام الحجر حادثة شق الصدر، فقد ثبت في صحيح مسلم ومسند أحمد وصحيح ابن حبان ( أن جبريل شق صدر رسول صلى الله عليه وسلم وهو غلام، واستخرج قلبه واستخرج منه علقة، وقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسل قلبه في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأم صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ).
ثم تقول السيدة عائشة رضي الله عنها:( ثم حبب إليه الخلاء ) أي: أن الله عز وجل هو الذي دفعه لذلك، كان يصعد صلى الله عليه وسلم كل سنة فترة معينة من الزمن - لعله شهر رمضان - يختلي بنفسه في غار حراء، يتفكر في خالق هذا الكون، كيف يمكن أن نعبد هذا الإله، والعرب بصفة عامة كانوا يعرفون أن الله عز وجل هو الذي خلق هذا الكون، وهو الذي خلقهم: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:٢٥]،
الحكمة الإلهية من طول المدة الزمنية لإعداد النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة
كانت هذه التهيئة الطويلة مدة أربعين سنة - إعداد - وترتيب وتهيئة نفسية لحمل الأمانة الثقيلة، مع أن الله سبحانه وتعالى يستطيع أن يعده لذلك في لحظة واحدة، ويثبت قلبه فلا يخاف ولا يتردد، لكن الحكمة من وراء هذا الإعداد الطويل أن ربنا سبحانه وتعالى يعلمنا التأني في التربية، والتدرج في حمل الناس على ما نريد، وحتى لو كان سيحمل رسولاً رسالة؛ فإنه يحمله إياها بالتدريج، والتدرج سنة من سنن الله عز وجل في التغيير والإصلاح، فالتربية تحتاج إلى تدرج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتاج أيضاً إلى تدرج.
فحياة الرسول صلى الله عليه وسلم كلها (٦٣) سنة:
- منها (٤٠) سنة هي سنوات إعداد له ليكون رسولاً، وليتلقى الرسالة،
- ومنها ثلاثة وعشرون سنة فقط نبوة، وكل ما يريده ربنا منه جعله في (٢٣) سنة.
فكل المتغيرات التي يمكن أن تحصل في حياة الناس، وكل الثوابت التي لا يفرط فيها كانت في (٢٣) سنة.
لكن لابد أن تعرف أنك محتاج إلى وقت ومجهود وتربية وإعداد لمن سيحمل هم الأمة الإسلامية، ولا تستعجل، فهذا الرسول صلى الله عليه وسلم يتربى (٤٠) سنة؛ من أجل أن يحمل هم الدعوة.
فإذا كان هذا يحصل مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يوجد أي معنى للاستعجال في حياتنا، ولا بد أن نفهم هذا الدرس جيداً:
التأني في التربية.
أهمية نزول جبريل بالوحي على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء
بعد (٤٠) سنة من الحياة في مكة جاء اليوم الذي ينزل فيه جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في خلوته في غار حراء.
مجيء جبريل عليه السلام حدث فريد فعلاً - لحظة خالدة - لحظة غير متكررة في تاريخ الأرض، هذا الموقف لم يحصل في الأرض منذ (٦٠٠) سنة، وهي الفترة بين الرسول وبين عيسى عليه السلام، فقد بعث الرسول على فترة من الرسل.
وعندما يموت الرسول صلى الله عليه وسلم فإن هذا الموقف لن يتكرر ! اسمعوا لقول أم أيمنَ حاضنة رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ
ومُربِّيتَه رَضيَ اللهُ عنها التي كان يَبَرُّها مَبرَّةِ الأُمِّ، ويُكثِرُ مِن زِيارتِها.
فبعدَ وفاةِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ, قالَ أبو بَكرٍ لعُمرَ انطلِق بنا إلى أمِّ أيمنَ نزورُها كما كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ يزورُها - قالَ فلمَّا انتَهينا إليْها بَكت, فقالا لَها ما يبْكيكِ فما عندَ اللَّهِ خيرٌ لرسولِهِ, قالت إنِّي لأعلمُ أنَّ ما عندَ اللَّهِ خيرٌ لرسولِهِ ولَكن أبْكي أنَّ الوحيَ قدِ انقطعَ منَ السَّماء قالَ فَهيَّجَتْهما على البُكاءِ فجعلا يبْكيانِ معَها.
انقطاع الوحي من السماء حسرة عظيمة، جبريل عليه السلام لن ينزل على بشر إلى يوم القيامة.
لقد دخل جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الغار في هيئة رجل، ودخوله على هذه الهيئة في الجبل ليس مفزعاً في حد ذاته، نعم، الرجل غريب، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يعرفه، لكن ما سبب خوف الرسول صلى الله عليه وسلم من رؤية جبريل عليه السلام أول مرة؟
يقول صلى الله عليه وسلم: (دخل علي جبريل فقال: اقرأ)، هكذا بدون مقدمات، لم يعرف بنفسه، لم يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه، وإنما خاطبه وكأنه يعرفه، يقول له: اقرأ، والرسول لا يدري أي شيء يقرأ؛ لأنه أمي لا يعرف القراءة والكتابة، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم بأدبه الجم:
(ما أنا بقارئ)، أي: أنا لا أستطيع أن أقرأ، ثم إن هذا الرجل احتضنه بشدة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
(فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد)، والرسول صلى الله عليه وسلم ليس بالضعيف، بل قوي البنية، معنى ذلك أن هذا الرجل قوته هائلة، ثم أرسله وتركه، وقال له:
(اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني)، كل هذا العنف في تبليغ الأمر، حتى يعلم أنه في حقيقة وليس في حلم، ثم قال له بعدما أطلقه في المرة الثالثة:
{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [العلق:١ - ٥]، ثم اختفى بعدما قال له هذه الكلمات.
فالرسول صلى الله عليه وسلم أبلغ العرب مطلقاً وأفصحهم، وبالتأكيد أنه عرف منذ اللحظة الأولى أن هذا ليس من كلام البشر، { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } [العلق:١ - ٢]، هذه أول مرة ينزل فيها قرآن على الأرض.
- ان هذا الرجل الذي جاءه كان يتحدث عن الإله الذي يبحث عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ زمن، يتحدث عن الإله
الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * وأكْرَم الإِنسَانَ* وعلم الإِنسَانَ * .
- الا أن الرجل لم يخبره عن أي شيء يريده منه، لم يخبره أنه سيصبح رسولاً، بل فقط قرأ عليه هذه الآيات التي لم تسمع من قبل على وجه الأرض ثم اختفى، وكان يغطه في كل مرة بشدة حتى يبلغ منه الجهد، حتى إنه قال من شدة الضمة: (يا خديجة لقد خشيت على نفسي).
كل هذه الأمور مجتمعة أدت إلى خوف الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم ذهب يجري إلى بيته قاطعاً اعتكافه باحثاً عن الأمان.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها تصف هذا الموقف:
(رجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: بهذه الآيات الخمس- يرجف فؤاده).
هذا الرعب الشديد والهلع الكبيرالذي يحدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
- أولاً: لإثبات بشرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنفس هذا الموقف حصل مع سيدنا موسى عليه السلام، فقد خاف وجرى، فهو بشر له أحاسيس البشر.
- ثانياً: إثبات عدم انتظار رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر النبوة، لكنه خاف لما جاءه جبريل عليه السلام،
- ثالثاً: ثم انها الطريقة لتي اختار ربنا عز و جل لتهييئ واعداد وتشويق الرسول الكريم للأمر العظيم الذي سيأتي، وبالفعل كان الرسول بعد هذا الأمر يخرج مراراً إلى الجبال لعله يقابل ذلك الرجل الذي جاءه في الغار، بعدما كان خائفاً أصبح مشتاقاً إلى قدوم جبريل عليه السلام.
رجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الزوجة الحنون العاقلة الكاملة خديجة رضي الله عنها وأرضاها، وفؤاده يرجف حين نزل عليه جبريل بالوحي، وكانت السيدة خديجة تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً لا يوصف، عاشت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشر سنة كاملة قبل البعثة لم تر منه إلا كل خلق حميد، والرسول صلى الله عليه وسلم لم ير منها إلا كل خير وحب.
موقف السيدة خديجة رضي الله عنها من الوحي
👈 - من هي السيدة خديجة رضي الله عنها
هي خديجة بنت خويلد بن أسْد القرشيَّة، وأمُّها فاطمة بنت زائدة العامرية، كنيتها أمُّ القاسم، وكانت تُلقَّب في الجاهليَّة بالطَّاهرة. وهي أمُّ المؤمنين وأولى زوجات النبيِّ محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأمُّ أولاده،
ولدت السيدة خديجة - رضي الله عنها - في مكة سنة ثمانٍ وستينَ قبل الهجرة، وكانت تَكبُر النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بخمسة عشر عاماً. وكانت من أشراف قريشٍ وأكابرهم.
كان ثراؤها وثراء آبائها وأجدادها معروفاً في بطون العرب، وكانت ترسل كلَّ عامٍ الرِّجال في تجارتها إلى بلاد الشَّام، فلما بلغها من صدق حديث محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعِظَم أمانته عرضت عليه أن يخرج في مالها إلى بلاد الشَّام فخرج في تجارتها إلى سوق بصرى بحوران ليتَّجر لها، وعاد غانماً رابحاً. ولفت نظرها ما كان عليه - صلَّى الله عليه وسلَّم - من خُلقٍ قويم، وحياءٍ وأمانة، فمالت نفسها إليه، ورغبت أن يكون زوجاً لها.
وقد امتنعت خديجة - رضي الله عنها - عن استقبال الراغبيين بالزواج بها بعد وفاة زوجها الثاني.
تزوَّج النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - خديجة -رضي الله عنها- قبل نزول الوحي عليه بخمسة عشرة سنةٍ تقريبا، و كان عمره حين تزوجها خمساً وعشرين سنة بينما كان عمرها أربعين. وزوَّجها منه عمُّها عمرو بن أسد.
لما خرج - صلى الله عليه وسلم - في تجارة خديجة إلى بلاد الشَّام خرج مع غلامٍ لخديجة اسمه ميسرة, حتى استظلَّا تحت شجرةٍ قريبةٍ من صومعة راهب من الرهبان، فأتى الرَّاهب ميسرة فسأله عن هذا الرجل وعلم أنه من قريش، فقال: "ما نزل تحت هذه الشجرة قطُّ إلا نبيّ"،
👈- أولاد السيدة خديجة من الرسول:
أنجبت خديجة - رضي الله عنها: زينب كبرى بنات النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم-، ثم رقيَّة، ثم أمّ كلثوم، ثم فاطمة الزَّهراء، وولدت له من الأولاد القاسم وبه كان يُكنَّى، وعبد الله الذي كان يُلَقَّب بالطَّيِّب والطَّاهر، وقد ماتا صغاراً،
ومن الجدير بالذِّكر أن جميع أولاد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم- من خديجة إلا ولده إبراهيم فهو من جاريته مارية.
فضائل السيدة خديجة.
👈- فضائل السيدة خديجةرضي الله عنها:
-أول من لجأ إليها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعدما نزل عليه الوحي
- أول من أسلم من النساء وأول من آمنت من النَّاس
- كان لها الفضل في تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم - صلَّى الله وتبشيره.
- هي من وقوف بجانبه وخفف عنه حين صدُّه الناس وكذبوه.
- وهي رضي الله عنها خير نساء الجنة، وقد قرن الله بينها وبين مريم بنت عمران في الخيريَّة، قال - صلَّى الله عليه وسلَّم-: (خَيرُ نِسائِها مَريمُ بِنتُ عِمرانَ ، و خيرُ نِسائِها خَديجةُ بِنتُ خُوَيْلِدٍ)،
- كما أنها واحدةٌ من النساء الأربع (مريم بنت عمران، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد) اللواتي بوَّأهُنَّ الله بأرفع المنازل
- وتميزت بإرسال الله السلام إليها مع جبريل -عليه السلام - وأمره نبيَّه أن يبشرها ببيت في الجنة من قصبٍ لا صخبٌ فيه ولا نصب.
- ولم يتزوج عليها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى ماتت - وقد تربّعت خديجة - رضي الله عنها - في قلب رسول الله -عليه الصلاة والسلام -، فكانت من أحبّ نسائه إليه فيقول: (إنِّي رُزِقْتُ حُبَّها)،
- وكان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يكثرمن ذكرها ومدحها أمام النَّاس؛ حتى أنه كان يصل من يودُّها ويكرم صويحباتها - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما أنه كان يرتاح لسماع صوتٍ يشبه صوتها كقدوم هالة أختها عليه فيكرمها من باب حسن العهد بزوجته خديجة.
رجع الرسول صلى الله عليه وسلم اذا إلى الزوجة الحنون رضي الله عنها وأرضاها فحكى لها ما حصل معه في الغار، وكان يظهر منه الرعب والهلع، وقال لها الكلمات التي نزلت عليه، ثم قال: (يا خديجة لقد خشيت على نفسي).
وأغرب من كل ما سبق ردة فعلها رضي الله عنها، وهي بحاجة منا إلى وقفة طويلة:
إذ من المتوقع والطبيعي أنها تخاف كعادة النساء، أو كعادة البشر بصفة عامة، أو على الأقل تتعجب، لكن الغريبز
- أنها كانت على العكس من ذلك،نظرت إلى الموضوع بمنتهى الثبات.
- ثم ليس هذا فقط بل قامت تقول له في يقين:
(كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرئ الضيف، وتعين على نوائب الحق)،
- لقد استنبطت السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها أن هذا الرجل صاحب الأخلاق الحميدة، وصاحب الآداب الرفيعة، لا يمكن أبداً أن يخزيه ربنا سبحانه وتعالى.
- الذي لفت نظر السيدة خديجة هي معاملات رسول الله صلى الله عليه وسلم مع البشر، لم تشر إلى تعبده واعتكافه وتفكره، بل إلى علاقاته مع الناس، فهي المعيار و المحك الحقيقي لتقييم الإنسان، وهذا درس مهمتلقنه لنا أمنا خديجة الزوجة العاقلة الكاملة رضي الله عنها وأرضاها.
هذا هو المقياس الذي ينبغي للبشر كلهم أن يقيسوا عليه حياتهم، لابد من أخذ القدوة والأسوة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لتكون حياتنا كحياته مليئة بالروعة والجمال.
هذا هو اليقين في الله : ( كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرئ الضيف، وتعين على نوائب الحق )، صلى الله عليك وسلم.
عند سماع هذا الكلام الرائع - هدأت نفسه صلى الله عليه وسلم، لقد قامت بدورها كزوجة صالحة، وأنها سكن لزوجها - تقول رضي الله عنها بلسان حالهل للمسلمات أن وأول مهمة وأعظم مهمة للزوجة: أنها سكن وطمأنينة وهدوء وابتسام، ورفع للروح المعنوية للزوج، وتسكين لفزعه، وتخفيف لآلامه، هذه هي الزوجة المسلمة - يقول الله تعالى في كتابه الكريم: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا } [الروم:٢١].
وتذكروصية رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اظفر بذات الدين تربت يداك).
الزوجة الصالحة هدية من الله و نعمة من الله عز وجل، وآية من آياته سبحانه وتعالى.
لما سكن الرسول صلى الله عليه وسلم واطمأن تأخد السيدة العاقلة زمام الأمور لكي لا تترك نفسها وزوجها للأوهام، بل قالت له بحزم وثبات: دعنا نذهب إلى ورقة بن نوفل ابن عمها، تعال نذهب إلى أهل العلم و الدين لنرى رأي الحكماء في هذا الأمر.
لم تذهب لكاهن - أو لخادم للأصنام - أو لحكيم من حكماء قريش - أو لسيد من أسيادهم - بل اختارت رجلاً كان قد تنصر، عنده علم من دين السابقين.
بشارة ورقة للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة
ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم هو وزوجته خديجة إلى ورقة بن نوفل، وكان ورقة بن نوفل شيخاً كبيراً قد عمي، وكان قد تنصر في الجاهلية، يعلم أن نبيناً سيظهر في هذا الزمان، وكان ينتظره.
كما كان أهل الكتاب يعرفونه من كتبهم وينتظرونه صلى الله عليه وسلم.
ورقة بن نوفل رحمه الله كان رجلاً صالحاً ورعاً، يعلم محمداً صلى الله عليه وسلم و تاريخه وحياته وأخلاقه وصفاته - فلما سمع منه صلى الله عليه وسلم هذه القصة العجيبة التي حدثت في غار حراء، قال مباشرة ودون تردد:
هذا الناموس - يقصد: جبريل عليه السلام - الذي أنزله الله عز وجل على موسى عليه السلام.
هنا يصرح ورقة بن نوفل بأمر خطير:
أن هذا جبريل الذي كان ينزل على موسى عليه السلام، وجبريل لا ينزل إلا على الأنبياء.
إذاً: محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله.
- تتصورمعي كم من الأحاسيس والمشاعر التي كانت تتداخل في صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسمع هذا الكلام؟
هل هذا حلم أم حقيقة؟
حق أم باطل؟
النبوة ليست مقاماً يصل إليه أحد بالاجتهاد في العبادة - النبوة اختيار واصطفاء من رب العالمين سبحانه وتعالى:
{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:٧٥].
- تأمل معي موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يسمع هذا الكلام من ورقة، أيكون الله عز وجل قد اختاره من بين كل الخلق ليكون نبي آخر الزمان؟!
انما الرجل الذي جاءه في الغار لم يخبره بذلك، لم يقل له: إنه رسول، لكن على الناحية الأخرى ورقة يتكلم بيقين وثقة وتأكيد.
ثم قال له ورقة: ( يا ليتني فيها جذعاً -أي: شاباً- إذ يخرجك قومك، فقال له رسول صلى الله عليه وسلم متعجباً:
أو مخرجي هم؟).
لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم، يعرف أي شيء عن الأمم السابقة وقصص الأنبياء ومعجزاتهم؛ لأن تفصيلات الأمم الماضية لا يمكن أن تعرف إلا عن طريق الوحي.
لم يكن يعرف قصص الأنبياء، وقصص التكذيب والمعاناة الشديدة التي عاشها الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه مع أقوامهم،
من أجل ذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم بعفوية:
( أو مخرجي هم؟)،فيجيب ورقة الحكيم العالم بقصص الأنبياء والمرسلين السابقين في يقين:
( لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ).
انها سنة من سنن الله عز وجل: تدافع الحق والباطل، صراع بين الدين وأعداء الدين، سنة باقية إلى يوم القيامة.
ثم يضيف ورقة: (وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً).
وورقة بن نوفل لم يدرك ذلك اليوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد مات بسرعة، وإن كان قد صدق برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبل التصريح بالرسالة، والرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح الحاكم بإسناد جيد يقول: (رأيت له جنة أو جنتين)، يعني: أنه من أهل الجنة إن شاء الله.
مات ورقة بن نوفل بعد أن سطر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين من بعده إلى يوم القيامة قاعدة أصيلة:
(لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي) - فهذه رسالة إلى كل الدعاة، هذا هو الطريق.
فترة انقطاع الوحي
ود رسول صلى الله عليه وسلم لو أن يأتي إليه جبريل مرة أخرى ليؤكد له أمر الرسالة ويتيقن، وقد يقول له ماذا يعمل، فأخد يترقب وينتظربشوق - وقد علم الأن أنه جبريل عليه السلام - الذي أنزله الله عز وجل على موسى عليه السلام .
لكن حدث أمر غريب - تأخرظهور الملك الكريم، وقد اختلف المؤرخون في الفترة التي فتر فيها الوحي، لكن أغلب الظن أنها كانت ما بين ثلاثة أيام إلى أربعين يوماً - فترة الانقطاع هذه مضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنها سنوات - فهو لم يتيقن بعد، ويريد أن يزيل عنه الشك.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج مراراً إلى الجبال لعله يلتقي جبريل عليه السلام، وازداد شوقه صلى الله عليه وسلم إلى الرسالة لقاء جبريل عليه السلام.
لم يرجع جبريل الى الغار مرة أخرى ولم يأتي له في أي مكان آخر، لكن تأخر جبريل - وازداد الشوق - الشوق الى الرسالة والشوق لحملها.
فارق كبير بين أن يبحث الرجل عن الدعوة ليحملها وبين أن تبحث الدعوة عن رجل ليحملها!
عندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبلغ به الحزن مبلغه يأتيه جبريل عليه السلام فيقول له: يا محمد إنك رسول الله حقاً، فيسكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يختفي وهكذا إلى مجيء اليوم الذي سيبتدئ فيه الرسول صلى الله عليه وسلم رحلة النبوة والتبليغ والتبشير والإنذار.
بدء الرسالة والأمر بالتبليغ
ثم جاء البشير وانكشف الغيم وسطع النور- نور الهداية للعالمين
( كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
( بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً، ثم نوديت، فرفعت بصري إلى السماء فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه حتى هويت على الأرض، فرجعت حتى أتيت خديجة فقلت: زملوني زملوني، دثروني دثروني ) يعني: غطوني.
بعد هذا الحدث مباشرة نزل قول الله عز وجل:
{ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:١] أي: المتغطي بثيابه:
{ قُمْ فَأَنذِرْ } [المدثر:٢]،
هذا أمر واضح بالتكليف والقيام بأمر التبليغ والإنذار.
عندها تغيرت حالة الرسول صلى الله عليه وسلم النفسية تماماً،
انه استيقن صلى الله عليه وسلم أنه الرسول - فلا شك ولاحزن اتما عزيمة واصرار نشاط.
(مضى وقت النوم يا خديجة)
هذا ما كان يقول صلى الله عليه وسلم للسيدة خديجة عندما تطلب منه أن يستريح ولو قليلاً،
(مضى وقت النوم يا خديجة).
الآن الرسول صلى الله عليه وسلم عرف كل شيء عن الرحلة الطويلة - رحلة النبوة و الأشياء الغريبة التي مرت به في حياته والتي كانت تهيئه لهذا اليوم العظيم.
من سلام الحجر عليه، وشق الصدر، والرؤيا الصادقة، وما أخبر به الراهب ميسرة غلام السيدة خديجة, والرجل الذي جاءه في غار حراء, وما أكده ورقة بن نوفل رضي الله عنه.
ثم تأتي هذه الأايات:
{ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنذِرْ }
فقام الرسول صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآيات ولم يقعد إلى أن مات، قام وما ترك صغيراً ولا كبيراً، ولا سيداً ولا عبداً، ولا فرداً ولا قبيلة، إلا ودعاهم إلى الإسلام.
(مضى عهد النوم يا خديجة).
منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في اختيار من يبدأ بدعوتهم
أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصل بدعوته إلى كل إنسان على وجه الأرض، فبمن يبدأ؟
لكي نفهم منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في اختيار الناس الذين يبدأ بهم في الدعوة، لا بد أولاً أن نسأل هذا السؤال:
هل يؤمن الإنسان بقلبه أولاً، أم بعقله؟
بمعنى آخر: الحب أولاً أم الحجة؟
💨- كلا الاثنين مهم، القلب والعقل مطلوبان.
من الصعب جداً على الإنسان أن يقبل فكرة ما من إنسان يكرهه أو لا يحبه.
إذا كنت تريد من الناس أن تسمع كلامك لابد أن تجعلهم يحبونك أولاً.
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159).
إن فكرة الإسلام التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم صحيحة ومقنعة، إذا فكر فيها أي عقل سليم، ومع ذلك فالفكرة غريبة على أهل مكة، فقد مرت (٦٠٠) سنة ليس فيها نبي، وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل، لذا استغرب الناس فكرة التوحيد على بساطتها ووضوحها، واستبعدوا فكرة أن يوجد رسول من البشر، كما في الحديث: (بدأ الإسلام غريباً).
فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخاطب بدعوته كل أهل مكة، بل كل أهل الأرض أجمعين، فبدأ بأكثر الناس احتمالاً وقبولاً للفكرة دون تردد؛ من أجل أن يكونوا قاعدة قوية للدعوة نفسها، وحتى يساعدوه في أمر الدعوة، فأكثر الناس قبولاً لفكرته هم أكثر الناس حباً له، فكان هؤلاء هم الذين سيبدأ بهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يوجد شيء بالصدفة، كل شيء محسوب وعلى أساس ومنهج، وهذا المنهج لأهل الأرض أجمعين.
إذاً: الحب هو أول مرحلة من مراحل الدعوة.
بدء الرسول صلى الله عليه وسلم بخديجة في الدعوة إلى الإسلام ثم بأبي بكر وزيد بن حارثة
ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم برسالته أولاً إلى زوجته الصالحة خديجة رضي الله عنها.
- خديجة كانت أول من آمن على ظهر الأرض،
- وهي الوحيدة التي تابعت أحداث الوحي وكانت شاهدة عليها بكل تفاصيلها منذ نزل جبريل في المرة الأولى في غار حراء بقول الله: { اقْرَأْ... } [العلق:١ - ٥]
ثم المرة الثاني بقول الله: {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:٢].
- بل نستطيع أن نقول إنها آمنت قبل أن يتأكد صلى الله عليه وسلممن أنه المبعوث بالرسالة، قبل:
{ قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:٢]، قالت: ( كلا، والله لا يخزيك الله أبداً ).
- والسيدة خديجة أحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً لا يوصف، هذا الحب مهد الطريق لتصديق العقل.
- انما الحب وحده لا يكفي، لابد أن يقتنع العقل، وهي السيدة العاقلة - قالت:
(كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرئ الضيف، وتعين على نوائب الحق )،، وهذه الصفات لا يمكن أن تكون في كذاب أو منافق،
كذلك لا يمكن لمن يتصف بهذه الصفات الا أن يكون مؤيدا من الله الذي خلق - الرب الأكرم - الرب الذي علم.
ثم الكلام الذي قاله الملك ليس من كلام العرب ولا من كلام البشر، مع أن الحروف عربية.
هناك اذا طاقة فوق إمكانيات البشر، وهذه الطاقة لابد أن تكون لله عز وجل،
كل هذا دار في ذهن السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها، دار بهذه السلاسة وهذه السرعة لأن بينها وبين الرسول صلى الله عليه وسلم حب وتصديق.
إذاً: الحب أولاً ثم الحجة ثانياً.
ثم ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أحب الرجال إلى قلبه، أبا بكر الصديق
أبو بكر هو أحب الرجال إلى رسول صلى الله عليه وسلم، كما صرح هو بذلك لما سئل عن أحب الرجال إليه؟ فقال: أبو بكر بدون تردد، وسيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه لم يخيب ظن الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد نور الله عز وجل قلبه، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم:
( ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له عنه كبوة - أي: تردد ونظر- إلا أبا بكر ما إن ذكرته له حتى آمن وما تردد فيه ).
لم يفعل أحد من البشر مثل هذا الفعل إلا أبا بكر والسيدة خديجة رضي الله عنها ورضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.
فسرعة إيمان أبي بكر يحتاج إلى دراسة.
نقول: إن الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان أقرب الناس إلى أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكثيراً ما يختار من الآراء ما يختاره الرسول صلى الله عليه وسلم حتى في غياب أحدهما عن الآخر، ولم يمش على الأرض من هو خير من الصديق إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
كان بين الصديق رضي الله عنه وأرضاه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم توافق عجيب في أمور كثيرة من أمورالأخلاق, أشهرها: الصدق، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الصادق الأمين، وأبو بكر هو الصديق رضي الله عنه وأرضاه، كذلك المروءة وخدمة الناس والتواضع والكرم والعفة، والبعد عن أماكن الفساد، كل هذه الأشياء أدت إلى سرعة إيمان الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه.
كان بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين زيد حب كبير كأنه ابنه، وكان معروفاً بين الناس بـ زيد بن محمد وزيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه كان يحب الرسول صلى الله عليه وسلم حباً شديداً، بل فضله على أبيه وعمه، وكان لهذا قصة :
كان زيد بن حارثة قد خُطف من أبيه من قبيلة بعيدة عن مكة وبيع في سوق الرقيق، واشتراه حكيم بن حزام رضي الله عنه وأرضاه، ابن أخي السيدة خديجة رضي الله عنها ثم أهداه لها، ولما تزوجت الرسول صلى الله عليه وسلم أهدته زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه، وأصبح زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومرت الأيام وعلم حارثة بن شرحبيل أن ابنه في مكة، فجاء إليها هو وعم زيد، وقالا للرسول صلى الله عليه وسلم:
( خذ ما شئت من المال نظير أن ترد زيداً إلينا، فقال لهما: وهل لكما فيما هو خير من الفداء؟ فقالا: وما هو؟ قال: أدعوه لكما فخيراه بيني وبينكما، فإن اختاركما فهو لكما بغير مال، وإن اختارني فما أنا بالذي يرغب عمن يختاره)، هذه أخلاق كانت قبل البعثة، أخلاق من صنع على عين الله عز وجل، صنع ليكون نبياً صلى الله عليه وسلم، عندها قال الرجلان: ( لقد أنصفت وبالغت في الإنصاف )، فجيء بـ زيد وقيل له: من هذان؟ قال: ( هذا أبي حارثة بن شرحبيل وهذا عمي كعب )، فقال صلى الله عليه وسلم: ( قد خيرتك إن شئت مضيت معهما، وإن شئت أقَمْتَ معي )، فقال زيدٌ من غير تَرَدُّدٍ ولا إبْطاء : ( بل أُقيمُ معك ، وما أنا بالذي أخْتار عليك أحداً...)
وهكذا أسلم الأحبة: خديجة و أبى بكر و زيد بن حارثة رضي الله عنهم وأرصاهم.
Commentaires
Enregistrer un commentaire