الدعوة سراً
لا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يصل بدعوته لكل إنسان في مكة، بل لكل إنسان على ظهر الأرض، وربما تصور المرء أن أسهل وسيلة لهذا أن يقف وسط الكعبة من أول يوم أُمر فيه بالبلاغ ويعلن للناس أمر الإسلام, ولكن ما فعله صلى الله عليه وسلم غير ذلك.
كان صلى الله عليه وسلم ينتقي رجلاً من رجال قريش، ثم يخبره سراً عن الإسلام، وكان يعلم أصحابه أن يفعلوا هذا، وقد ظلت الدعوة السرية فترة طويلة جداً بالقياس إلى عمر الدعوة الإسلامية.
- فالدعوة السرية امتدت حوالي (3) ثلاث سنوات،
- والدعوة كلها (23) سنة.
وعندما وقف صلى الله عليه وسلم على جبل الصفا وقال للناس: ( أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدّقي؟ )، لم يكن ذلك بادئ الدعوة، بل كانت بعد ثلاث سنين كاملة من نزول الوحي. وهي فترة كبيرة جداً في حق مجتمع صغير كمكة.
ان دعوة الإسلام وإن كانت جميلة ومقنعة، إلا أنها في بدايتها وستتعرض إلى معارضة وحرب، ليس فقط من قريش، بل من العالم كله.
لا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لكن كانت هذه هي الحكمة، كل خطوة في حياته صلى الله عليه وسلم كانت محسوبة، والسرية في الدعوة في هذه المرحلة لم تكن اختياراً نبوياً، ولكنها كانت أمراً إلهياً، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم، ويريد أن يعلمنا منهج التغيير في مثل هذه الظروف،
- كيف يمكن للأجيال التي ستأتي بعده أن تغير في غياب الرسول صلى الله عليه وسلم؟
- وإذا توافقت الظروف مع ظروف رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة كيف يتصرف؟
لا شك أن الله سبحانه وتعالى قادر أن يحمي الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يصل إليه أي أذى من قريش، ومع ذلك هو يريد أن يرسم الطريق الصحيح للمسلمين لإقامة هذا الدين، مهما اختلفت الظروف، ومهما كثرت المعوقات؛ ولهذا ربنا سبحانه وتعالى وضع الرسول صلى الله عليه وسلم في كل الظروف التي من الممكن أن تمر بها أمته بعد ذلك، وعلّم الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يتعامل مع كل حدث؟ كيف يصل بدعوته إلى الناس في وجود أي معوق؟
اختلفت الظروف بعد ذلك في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالتبعية سيختلف منهجه صلى الله عليه وسلم في إيصال دعوته للناس وفي تربيته للمؤمنين.
- سيأتي زمان بعد هذا يكتم معظمهم فيه إسلامهم ويعلن بعضهم
مثل سيدنا عمر- وسيدنا حمزة رضي الله عنهما،
- وسيأتي زمان يعلن الجميع وتكون التربية في العلن، وذلك بعد الهجرة إلى المدينة المنورة،
- وسيأتي زمان سيدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه زعماء العالم إلى الإسلام، وهذا بعد صلح الحديبية.
كل هذا سيحدث؛ وهذا التنوع في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ليعلمنا الحكمة الحقيقية في الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأقواله عند تشابه الظروف.
ضرورة الحفاظ على الدعوة بالسرية
نخرج من موقف الرسول صلى الله عليه وسلم عند بدء الدعوة بقاعدة مهمة:
ان الدعاة مطالبون بالحفاظ على أنفسهم وعلى حياتهم لا لخوفهم من الموت، فالموت في سبيل الله في حد ذاته غاية، ولكن حفاظاً على الدين وعلى الإسلام، وعلى استمرار المسيرة، فهنا نظام وحكمة ومنهج ثابت.
إن الإمام مالك رحمه الله قال: يجوز الفرار من المثل، وليس من المثلين، وقال: إذا كان العدو أعتد جواداً وأجود سلاحاً وأشد قوة، وغلب على ظن قائد المسلمين الهلكة، وأخذ في الحسبان العوامل الأخرى غير العدد - بل ذهب العز بن عبد السلام إلى أبعد من ذلك، فقال:
لو أنك تحارب عدوك وأنت متأكد أنك لا تستطيع أن تؤذي عدوك فلا تقاتله، قال: إذا لم تحصل النكاية في العدو وجب الانهزام؛ لما في الثبوت من فوات النفس مع شفاء صدور الكافرين، أي: أن النفس ستذهب والمسلمون سوف يموتون، والكفار لن يحصل فيهم أي أثر، بل سيزيد الكفر؛ لأن المسلمين قلوا.
ويقول العز بن عبد السلام: وقد صار الثبوت هنا مفسدة محضة ليس في طيها مصلحة.
أي: أنه يأثم المسلم بإظهار نفسه إذا كان الاختفاء والانسحاب هو الألزم للمرحلة، وهذا إدراك لسلوك المسلم وسلوك الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذه المواقف.
الفرق بين المحافظة على الدعوة والمحافظة على النفس
هناك نقطتان مهمتان لتكتمل الصورة:
- 💨 النقطة الأولى: أن الفارق بين الحكمة في الحفاظ على النفس وبين الجبن خطوة، فمن الممكن أن يقول شخص: أنا أحافظ على نفسي؛ لأن المرحلة تريد هذا، فلا يقول كلمة حق ولا يجاهد، ولا يدعو إلى الله، ولا أي شيء أبداً في سبيل الله، بينما الدافع الحقيقي وراء هذا الركون أو القعود هو الجبن والخوف من مواجهة الباطل.
إذاً: كيف نفرق بين الحكيم الذي يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين الجبان الذي لا يريد أن يحمل هم الدعوة؟
أولاً: يرجع في ذلك إلى الدليل الشرعي من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك أن يكون موقفه هذا يشبه موقف الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أخذ بالسرية.
ثانياً: الورع والإيمان والتقوى الذي في قلب الإنسان، والله سبحانه وتعالى هو المطّلع على القلوب ويراك، وأنت أولاً وآخراً تتعامل مع الله سبحانه وتعالى.
ثالثاً: الرأي المشار إليه من قبل القائد والجماعة والشورى في هذه المرحلة، والشورى في غاية الأهمية وهكذا يمكن أن يخرج عامل الهوى، ونستطيع أن نفرق بين الحكيم وبين الجبان.
💨 -النقطة الثانية: أن الذي يُراعى هو مصلحة المسلمين والإسلام عموماً، وليس مصلحة الفرد، أي: أنه قد يهلك الفرد وتكون الهلكة محققة، لكن هذا في مصلحة المجموعة، هنا لا يُلتفت إلى الحفاظ على الفرد؛ لأننا نحافظ على الدين بصفة عامة، وعلى الأمة أو المصلحة العامة، أي:
- أنه سيأتي بعد ثلاث سنين من هذا الأمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم يجهر بدعوته، وستكون هناك خطورة حقيقية عليه، لكن المصلحة الأعم للدعوة أنه يُعلن،
- وسيأتي بعد فترة يبعث مصعب بن عمير إلى المدينة المنورة، وسيكون هناك خطورة حقيقية على مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه، ففي المدينة المشركين واليهود وغيرهم، لكن المصلحة المتحققة أعلى، فيُضحى بمصلحة مصعب بن عمير على حساب تحقيق مصلحة أكبر للدعوة،
من الذي يحكم في النهاية؟ الشورى والقائد، ومن المؤكد أن الهوى سيدخل إذا لم تدخل الشورى أو القائد في الموضوع.
وقد يكون من الهوى أن يموت؛ لأنه لم يتحمل الظلم الواقع على المسلمين، ولا يستحمل أن الكفر له الغلبة، فيحاول أن يتخلص من الأمر بالتسرع في إعلان نفسه، أو التسرع بالقتال في سبيل الله، أو في إظهار أمر الدعوة في مكان لا يستقيم أن يُظهر فيه أمر الدعوة في هذه المرحلة، كل هذا قد يكون هوى في قلب الإنسان، والله سبحانه وتعالى يريد منك تصرفاً آخر، ولهذا نؤكد دائماً على الشورى والرجوع إلى قائد المسلمين.
فقه اختيار المدعوين في المرحلة السرية
كان الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون في السنوات الثلاث الأولى لا يتحدثون بالإسلام إلا سراً لرجال معينين يختارون لهذا، لكن كيف كان يتم هذا الاختيار؟
ما السبب في أن الرسول صلى الله عليه وسلم أو أبا بكر يذهب لدعوة عثمان بن عفان ولم يذهب إلى الوليد بن المغيرة أو لـ أبي جهل أو أمية بن خلف؟
من الواضح أن هناك قواعد دقيقة لهذا؛ لأننا لم نسمع أن اختيارهم كان خطأ، بل كل الذين اختاروهم وأسروا إليهم بالإسلام قبلوه.
وهذا شيء مهم: أنك تعرف من الذي لو عرضت عليه أمر الدين قَبِلَه في الغالب، بهذا ستوفر مجهوداً كبيراً، وفي نفس الوقت ستنجح، وتبني لك قاعدة قوية.
بالنظر إلى السابقين إلى الإسلام نستطيع أن نخرج بقواعد مهمة، وسبق أن ذكرنا قاعدة في دعوة المدعوين، وهي الحب أولاً، لكن هناك قاعدتان في غاية الأهمية أيضاً كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعملهما في اختيار الناس:
💨 - القاعدة الأولى: الحكمة النبوية العظيمة، (خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا).
الاختيار كان يقع غالباً على أصحاب الأخلاق الحسنة والأخلاق الحميدة، الذين يعظّمون الصدق والأمانة والكرم والشجاعة والعدل ومكارم الأخلاق، هناك كثير من الناس غير ملتزم بالإسلام، لكنه يحب الأخلاق الطيبة، هؤلاء لو التزموا بالدين سيكونون خير سند للدعوة، وبهؤلاء بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
💨 - القاعدة الثانية: التركيز على الشباب،
نعم الدعوة موجهة لكل الأعمار، لكن التركيز على الشباب في الفترة الأولى كان واضحاً، لأسباب:
- أولاً: أن الشباب لم يَطُل عليهم الأمد في الاستمرار على تقاليد معينة، ولم يعتادوا على عبادة الأصنام لسنوات طويلة، ولم يتمسكوا بالدفاع عنها، فأنت عندما تذهب للكلام مع غير الشباب، وتقول له: أنت لك (٤٠) سنة أو (٥٠) سنة تدافع عن قضية باطلة، كيف يمكن له أن يؤمن بكلامك؟ صعب، لكن الشباب أيسر بكثير، لم تتلوث عقولهم بأفكار خاطئة، ومن ثم يستطيعون تقبل الفكرة الإسلامية بسهولة.
- ثانياً: أن الشباب بصفة عامة مولعون بالجديد، لذلك تجد أكثر المقلدين للموضات هم الشباب مهما كانت، حتى لو كانت لا تتوافق مع هواهم، لكن المهم أنها شيء جديد.
- ثالثاً: أن الله سبحانه وتعالى أعطى الشباب حماسة عالية، وحمية ونشاطاً، لا يعترفون بالصعب، بل تستطيع أن تقول: لا يعترفون بالمستحيل، وحمل الإسلام صعب وشاق يحتاج إلى عزيمة الشباب، وليس معنى هذا أن الشيوخ ليس لهم مكان في حمل دعوة الإسلام، لكن فرصة إيمان الشباب وفرصة حركة الشباب للدعوة بعد الإيمان، وفرصة ثبات الشباب على الحق وتحديه للصعاب والمشاكل أكبر من فرصة الشيوخ، ومن المؤكد أيضاً أن الدعوة تحتاج إلى الشيوخ وحكمتهم بجانب حماسة الشباب.
كل هذا الكلام جعل التركيز الأول على الشباب ذي الأخلاق الطيبة والحسنة، فهؤلاء هم الذين يمكنهم أن يتحملوا الدعوة، سواء في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم، أو في الأزمان اللاحقة، أو في زماننا هذا وإلى يوم القيامة.
هذه سنة من سنن الله عز وجل في التغيير.
ثمار الصديق الدعوية في الدعوة السرية إلى الإسلام
في اليوم الثاني من أيام الدعوة بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون الأوائل يتحركون لانتقاء عناصر جديدة.
ولنا وقفة مهمة مع حركة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان الصديق إيجابياً بدرجة لا يمكن وصفها، كان يتحرك بالدعوة وكأنها أُنزلت عليه، لم تكن الدعوة عنده مجرد تكاليف من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يحب الإسلام ويريد من الناس جميعاً أن يعرفوه، وفي نفس الوقت كان يحب كل الناس، وهذا الحب للدين وللناس نتج عنه حماسة دعوية على أعلى مستوى، ففي أول تحرك له أتى بمجموعة وليس فرداً، أتى بالأسماء الذين سأذكرهم، وأريدك أن تقف عند كل اسم وتتأمل صاحب هذا الاسم وتاريخ وقصة حياته، لتعرف ميزان الصديق عند الله عز وجل.
-الاسم الأول: عثمان بن عفان.رضي الله عنه وأرضاه
-الاسم الثاني: الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه.
-الاسم الثالث: سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه.
-الاسم الرابع: طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وأرضاه.
-الاسم الخامس: عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه.
ولن أفصل في سيرة هؤلاء؛ فكل واحد منهم يعتبر علماً ومنارة من منارات الإسلام. فهؤلاء الخمسة جميعهم من العشرة المبشرين بالجنة.
ان مكة لها مئات السنين وهي تعيش في الشرك، الا أنه كان للصديق من الإقناع ما جعل هؤلاء الخمسة العمالقة يطمئنون للاسلام. فما مقدار الصدق الذي في قلب الصديق رضي الله عنه وأرضاه حتى يهدي الله عز وجل على يده هؤلاء الخمسة العظام -
والغريب أن هؤلاء الخمسة لم يكونوا من قبيلة بني تيم، قبيلة الصديق رضي الله عنه باستثناء طلحة بن عبيد الله
- فـ عثمان أموي،
- والزبير أسدي،
- وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف من بني زهرة،
الا أنه من المؤكد أن علاقات الصديق كانت بهم قوية جداً ووثيقة قبل الإسلام،
ومن المؤكد أنهم كانوا يحبونه حباً عظيماً، ويثقون به - فوجد الإقناع ووجدث الحجة الصدر الرحب لاعتناق هذا الدين..
ثم لو نظرنا إلى أعمار هؤلاء - كلهم أخذوا قرار الارتباط بالإسلام وتحمل المشاق الضخمة في هذه السن المبكرة!
- الزبير بن العوام كان عمره (١٥) سنة،
- وطلحة بن عبيد الله (١٦) سنة.
- وسعد بن أبي وقاص خال رسول الله صلى الله عليه وسلم (١٧) سنة.
- وعبد الرحمن بن عوف (٣٠) سنة.
- وعثمان بن عفان (٢٨) سنة.
لقد كان لهؤلاء الشباب من الوعي والإدراك والقدرة على تحمل المسئولية والفهم والتفكير مثل هؤلاء؟
هل عندهم من القدرات التي كانت عند شباب الصحابة؟ والله إننا لنحزن عندما نرى أن بعض الشباب في هذه المرحلة العمرية الثمينة جداً فرغت عقولهم تماماً من كل ما هو ثمين أو قيم، ولو بحثت في عقولهم لم تجد إلا بعض الأغنيات والمسلسلات والمباريات، وقصات الشعر والفيديو ورسائل الموبايل مع أن كثيراً منهم نشئوا في بيوت مسلمة، ومن آباء وأمهات مسلمين، وربما نشئوا في بيئة إسلامية صالحة، لم يكونوا في بيوت كافرة كبيت الزبير بن العوام أو طلحة بن عبيد الله أو سعد بن أبي وقاص.
هناك دور كبير جداً راجع لفساد الإعلام والتعليم، لكن نحن أيضاً علينا جزء كبير، لعلنا لم نعط الشباب الوقت الكافي من حياتنا، أو أننا نستصغر عقولهم وأفكارهم، فينتهي من الثانوية والجامعة والجيش ويتزوج، وهو لا يزال أيضاً صغيراً، والبلوغ العقلي عندنا (٤٠) سنة! وعند ذلك لا يعتمد على نفسه، ولا يعتمد عليه مجتمعه.
هذا الشيء في الحقيقة يحتاج منا إلى وقفة كبيرة جداً، الشباب إمكانيات هائلة، لو وقفت مع الشباب وأعطيتهم وقتاً وتربية وجهداً ستأخذ منهم كما أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم من
سبب نجاح الصديق في الدعوة إلى الله تعالى
كان الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول لبعض المسلمين:
(يا أيها الناس! إن منكم منفرين) أي: بعض الدعاة ينفرون الناس من الإسلام.
فما معنى أن تكون دعوة الصديق بهذه الروعة؟
ولماذا استُجيب للصديق بهذه الصورة؟
كان الصديق - كما يقول طلحة بن عبيد الله - رجلاً سهلاً محبباً موطأ الأكناف، أي: ليّن الجانب، وببساطة ليس بالفظ ولا بالغليظ.
وكان تاجراً ذا خلق واستقامة وكان صدوقاً، بل تاجراً صديقاً، كريماً رحيماً، فيه رأفة وأدب وخلق حسن . واذا كان المال فتنة، وكثير من التجار يخسرون الناس بسبب التجارة، فان الصديق كان عكس كان يكسب الناس بسبب التجارة. وكان يقول عنه طلحة: "وكنا نألفه ونحب مجالسه؛ لعلمه بأخبار قريش وحفظه لأنسابها" . وكانت الطبقة المثقفة في مكة تحب أن تجلس معه وتسمع منه الأنساب. ومع علمه بكل نقيصة في كل نسب فقد كان من أدبه رضي الله عنه أنه كان لا يطعن في أنساب أحد.
فهكذا استجاب هذا العدد العظيم من عمالقة الإسلام للصديق رضي الله عنه - فهو من خير الدعاة بعد رسول الله رضي الله عنه وأرضاه - ومن هؤلاء نتعلم كيف نبني أمة؟
عالمية دعوة الإسلام وقاعدة المفاضلة بين الناس في الدين الإسلامي
تزايد عدد المسلمين، والقاعدة الأصيلة التي تحكم هي:
(خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا)
لم تكن تحكم المسلمين أي قاعدة من القواعد التي اخترعها الناس للتفرقة - كانت المفاضلة بين الناس بأمور مكتسبة يستطيعون تغييرها - ومنها:
- التقوى { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات:١٣] وهي شيء مكتسب و الأخلاق الحسنة هي شيء مكتسب، نعم لها جذور فطرية، والإنسان يكون مجبولاً على الكرم والصدق، لكن في النهاية الأخلاق الحميدة شيء مكتسب والصدق والوفاء والشجاعة و الكفاءة.
إذاً: هذه أمور تستخدم للمفاضلة بين الناس: التقوى، الأخلاق، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يستخدم القواعد الإلهية ولا يستخدم القواعد الظالمة التي اخترعها الناس، فلم يكن هناك فرق بين الأحرار وبين العبيد، بل قد يسبق العبد الحر في مجال الأخلاق والتقوى والكفاءة؛ ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم وجه دعوته للعبيد كما وجهها للسادة سواء، وهذا كان مستغرباً في البيئة المكية القديمة، وإلى الآن هو أمر مُستغرب.
فنحن نرى في الأوائل الذين أسلموا تباينات عجيبة:
فكما رأينا من الأشراف:
من الصديق رضي الله عنه وأرضاه - وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام - وعثمان بن عفان - وسعيد بن زيد كل هؤلاء من أشراف مكة،
رأينا أيضاً العبيد والموالي:
بلالاً - وعامر بن فهيرة - وزيد بن حارثة وغيرهم، ولم يعرف هذا إلا في دين الإسلام.
أيضاً لم يكن هناك فرق بين الغني والفقير:
المال لا يصلح للمفاضلة بين الناس، فالله عز وجل يرزق من يشاء بغير حساب - فالأوائل الذين أسلموا كان فيهم الأغنياء واسعو الثراء:
كـ الصديق - وعبد الرحمن بن عوف - وعثمان
وكان فيهم أيضاً شديدو الفقر:
كـ عبد الله بن مسعود - وعمار بن ياسر - وسمية بنت خياط - وخباب بن الأرت وغيرهم،
لم يكن هناك أي فرق بين الغني والفقير.
مع أنه على عكس ما يتخيل كثير من الذين يدرسون السيرة، فهم يعتقدون أن غالبية المسلمين كانوا من الفقراء البسطاء، لكن عندما نأتي نحلل شخصية كل مسلم من المسلمين الأربعين الأوائل سنجد أن الفقراء كانوا (13) والأغنياء كانوا (26)، أي أن (60%) من المسلمين الأوائل كانوا من الأغنياء،
ولم تكن هناك ثورة من الفقراء على الأغنياء، كما يحب بعض الاشتراكيين أن يصوروا من ذلك؛ ليأخذوا سنداً شرعياً لاشتراكيتهم، فالوضع كان خلاف هذا تماماً، الأغنياء سعوا إلى هذا الدين القويم الرائع، وضحوا بثرواتهم، وعرّضوا أنفسهم للفقر الشديد،
- وليس أبلغ من الأمثلة الإسلامية الرائعة كـ الصديق، فقد كان يملك أربعين ألف درهم عندما أسلم، وعندما هاجر كان يملك خمسة آلاف درهم صرفها على الهجرة، أي: أنه أصبح فقيراً بعدما أسلم،
- ومصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه كان من أغنى أغنياء مكة، ومن أنعم شبانها، ثم أصبح من أشدها فقراً وحاجة،
لم تكن هناك ثورة من الفقراء على الأغنياء، أو عملية تقسيم للثروات على شعب مكة أبداً، لم يكن هناك أي فرق بين الغني والفقير، المهم التقوى.
لم يكن هناك أيضاً فرق بين العرب وغير العرب، المهم التقوى والأخلاق والكفاءة.
دعوة الإسلام ليست دعوة قومية، حتى في هذه البيئة التي تفتخر بعربيتها، فقد ضمت هذه الدعوة
- بلالاً من الحبشة،
- وصهيباً الرومي،
- وبعد سنين ستضم سلمان الفارسي،
- وستدخل بعد ذلك كل العرقيات من فرس ورومان وسلاجقة وأتراك وأكراد وغيرهم كثير،
سيدخل كل هؤلاء إلى دين الله أفواجا، وكل منهم سيخدم الإسلام في مكانه، لا فرق بين عربي ولا عجمي إلا بالتقوى.
الناس سواسية لا فرق بين أحمرهم وأبيضهم وأسودهم، وغنيهم وفقيرهم، وقويهم وضعيفهم ووسيمهم، لا فرق بين واحد منهم - إن أكرمهم عند الله أتقاهم، البشرية متساوية في أي إهاب، من أي جنس، من أي طائفة، من أي لون، من أي ثقافة، الكبير والصغير، والحاكم والمحكوم، والقوي والضعيف، والوسيم والدميم.
حرص النبي صلى الله عليه وسلم على الدعوة وأفرادها
استمرت الدعوة السرية لمعظم الأفراد حتى بعد الإعلان النبوي الذي سوف يحصل بعد ثلاث سنين، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصاً كل الحرص على الحفاظ على كل واحد من أفراد جماعته المؤمنة، سواء كان عبداً أو حراً، قرشياً أو غير قرشي، من قدماء الصحابة أو حديثي الإسلام كل الناس كانت قيمتهم عالية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قصة إسلام عمرو بن عبسة
هناك بعض الراويات التي توضح لنا كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يأخذ بكل عوامل الحرص والحذر؛ ليحمي الجماعة المؤمنة الجديدة التي في مكة وإسلام عمرو بن عبسة رضي الله عنه وأرضاه بعد أكثر من ثلاث سنين من الدعوة مثال على ذلك.
كان عمرو بن عبسة من قبيلة سُليم، وكان مع الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من (60) صحابياً، لكن انظر إلى الحوار الذي سوف يدور بين عمرو بن عبسة رضي الله عنه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم.
يقول عمرو بن عبسة كما جاء صحيح مسلم: (فتلطّفت حتى دخلت عليه مكة، فقلت له: ما أنت؟ فقال: أنا نبي، فقلت: وما نبي؟ قال: أرسلني الله، فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله ولا يشرك به شيء، قلت له: فمن معك على هذا؟ قال: معي حر وعبد، يقول عمرو بن عبسة: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به) فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يكشف أوراقه كلها أمام عمرو بن عبسة رضي الله عنه، ولا يريد أن يقول له على جميع المسلمين قبل أن يستوثق منه، بالذات أن عمراً ليس من مكة، فهو بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم مجهول، فلا يستطيع أن يخبره بالتفاصيل - فلقد آثر الرسول صلى الله عليه وسلم الحرص والحذر على الدعوة في ذلك الوقت، وهذا كان في كل خطواته في أثناء المرحلة السرية، وأيضاً بعد المرحلة السرية.
آمن عمرو بن عبسة رضي الله عنه وأرضاه، ولما آمن أراد أن ينضم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، فقال له صلى الله عليه وسلم: (إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا) لأن الموقف صعب، ولا يوجد أحد يحميه في داخل مكة، وسوف يُضطهد فيها أشد الاضطهاد.
فهنا يضحي صلى الله عليه وسلم بالنصرة , نصرة عمرو بن عبسة في نظير أن يؤمِّن حياته ويحفظه لمرحلة قادمة قد تكون الدعوة أحوج إليه - لقد أعاده مرة أخرى إلى قبيلة سُليم، وقال له: ادع إلى الله هناك، فرجع عمرو بن عبسة الى قبيلته وبدأ يدعو فيها حيث الحماية متوفرة له فأتى بنصف قبيلة سُليم بعد ذلك.
يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نأخذ بالأسباب، ويعلمنا كيف نأخذ بها في كل مرحلة من مراحل الدعوة.
قصة إسلام أبي ذر الغفاري
كانت قصة إسلام أبي ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه قصة لطيفة طويلة، نأخذ منها ما يفيد الموضوع.
أخذ سيدنا علي بن أبي طالب أبا ذر الغفاري ليعرفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي أيضاً كان في منتهى الحرص ، كان يقول لـ أبي ذر: إن رأيت شيئاً أخاف عليك منه قمت كأني أصلح نعلي، فأخذه وذهب به لمقابلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت الحرام أثناء الطواف ليلاً، لم يذهب به إلى دار الأرقم فهو لم يطمئن إليه بعد، وأبو ذر من قبيلة غفار المشهورة بقطع الطريق، فهو فعلاً أمره غير مأمون إلى أن يستوثق تماماً من إيمانه، فعندما ذهب أبو ذر يكلم الرسول صلى الله عليه وسلم سأله أولاً: من أين أنت؟ فقال أبو ذر: من غفار - هنا الرسول صلى الله عليه وسلم شعر بالقلق، يقول أبو ذر: ( فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجهي، فقلت في نفسي: كره أن انتميت إلى غفار ) يعني: عرف الرسول صلى الله عليه وسلم أن أبا ذر من قبيلة خطيرة، ومع ذلك وضح له أمر الإسلام، لكن لم يعرفه على خبيئة من خبايا المسلمين الموجودة في مكة؛ حرصاً وحذراً، وحساً أمنياً راقياً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحكمة من اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم دار الأرقم للاجتماع بأصحابه فيه في أول الدعوة
من المظاهر السرية العجيبة في ذلك الوقت: اجتماع الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة في دار الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه (١٣) سنة من غير أن يعرف مكانهم أحد، شيء في منتهى الغرابة، ومكة بلد صغير، وأهلها جميعهم يعرفون بعضهم بعضاً، كيف استطاع المسلمون أن يأخذوا الحذر لكي لا يعرف مكانهم أحد طوال هذه الفترة، ليس يوماً أو يومين أو ثلاثة بل (١٣) سنة، واجتماعهم كان منتظماً، فقد كانوا يجلسون كثيراً، وعددهم غير قليل فهم (٦٠) رجلاً، لم نسمع عن مداهمة واحدة من زعماء قريش لبيت الأرقم خلال (١٣) سنة.
ولعل سائلاً يقول: ما سبب اختيارهم لدار الأرقم بن أبي الأرقم بالذات؟ ولماذا لم يختاروا بيت الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحد الصحابة الآخرين؟ نقول:
- أولاً: الأرقم لم يكن معروفاً بإسلامه، فلم تتم مراقبة بيته من قريش، فالرسول صلى الله عليه وسلم أو الصحابة الذين عُرفوا بالإسلام لا تصلح بيوتهم لهذا الأمر.
- ثانياً: الأرقم من بني مخزوم، وبنو مخزوم هي القبيلة المتنازعة دائماً مع بني هاشم، وأكثر الناس كراهية لبني هاشم في مكة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه يجتمع في عُقر دار عدوه، وذلك لم يخطر أبداً على أذهان زعماء أهل مكة.
- ثالثاً: الأرقم كان بيته بعيداً عن القوم، لم يكن في قلب المدينة، أي: أنه لم يكن هناك أحد يمشي من جوار البيت، ولم تكن هناك بيوت أخرى يمكن منها مراقبة بيت الأرقم بن أبي الأرقم.
- رابعاً: الأرقم كان عمره (17) سنة، شاب صغير لن يشك فيه أحد من أهل مكة، وأهل مكة قد يعتقدون أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعقد جلساته في بيت أحد من كبار الصحابة، مثل أبي بكر الصديق أو عثمان أو عبد الرحمن بن عوف لكن في بيت هذا الشاب الصغير - هذا احتمال بعيد جداً عن أذهان قريش.
كيف استطاع الأرقم أن يأخذ المهمة الضخمة هذه مع أنه كان من قبيلة بني مخزوم؟ وكان زعيم قبيلة بني مخزوم أبو جهل، ومن المعروف أن أبا جهل فرعون هذه الأمة، أعتى أهل قريش على المسلمين، فلو اكتشف أمر الأرقم بن أبي الأرقم لا بد أن نهايته القتل، فرضي الله عن الأرقم ورضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.
سبب عدم تعرض قريش للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في أول الإسلام
مع كل الحذر والاحتياط من الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته على أمر الدعوة إلا أن قريشاً اكتشفت الأمر، رأت بعض المسلمين يصلي صلاة غريبة لم يعتادوا عليها، فعرفوا أنهم على دين جديد، فقد رأى رجل الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصلي مع السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها، وكان ذلك الرجل يجلس بجوار العباس، وكان العباس مشركاً فسأله عن عملهما؟ فقال: يزعم أنه يأتيه وحي من السماء، أو يقول: إنه نبي.
وأيضاً أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ابنه علي بن أبي طالب وهو يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يعلّق على هذا الموضوع، ومن المؤكد أن بعض العائلات الأخرى رأت أولادها يصلون أو يقرءون القرآن، لكن مع كل هذه المشاهدات ومع هذا الإدراك لأمر الإسلام لم تعترض قريش في هذه المرحلة، بل لم تعر ذلك أي اهتمام.
بعض الأحيان يتعجب الواحد من أفعال قريش، لماذا سكتت عن أمر الإسلام في ذلك الوقت؟ ولماذا آذت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاربته هذه المحاربة الشرسة بعد أن أعلن دعوته في مكة؟
الحقيقة أن قريشاً كان فيها قبل هذا رجال على نفس هذا النهج، مثل أمية بن أبي الصلت - وزيد بن عمرو بن نفيل وكانوا على الحنيفية - وورقة بن نوفل وكان نصرانياً فهؤلاء لم تكن تعمل لهم أي حساب وظنت أن المسلمين مثلهم، لكن أن يجاهر بدعوتهم، ويدعو إلى تسفيه الأصنام والقوانين الوضعية التي وضعها أهل مكة وأنزلوها منزلة كلام الله عز وجل، فهذا ما لا تريده قريش.
فمبدأ قريش واضح وهو: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، أما أن يأتي دين يتدخل في كل صغيرة وكبيرة في منظومة الأرض وفي حياة الإنسان والمجتمع، فهذا ما ترفضه قريش بالكلية.
إذاً: في هذه المرحلة ترك القرشيون المسلمين دون تعرض، ولكن في المرحلة القادمة وبعد ثلاث سنوات من الدعوة السرية سيجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوته في وسط مكة، وسيعلن توحيده لله رب العالمين، وسيعلن نبذه للأصنام والأوثان.
.
.
Commentaires
Enregistrer un commentaire